كانوا يبالغون "قليلاً" يا رفعت ويتساءلون بدهشة: ما الضير في ذلك؟ لم نكذب! ثم، كيف يا حمقاء تصدقين كلامنا حرفيًا؟ تذكرني دهشتهم برد فعل أمي حين تطلب مني ملعقتي أرز فأذهب وأعود إليها بملعقتين بالعدد. تضحك لسذاجتي وتلقنني الدرس مرارًا: "هو عشان قلت معلقتين يبقوا اتنين فعلاً؟" ولم أتعلم الدرس أبدًا!
كانوا يبالغون "قليلاً" ولم أفهم الخدعة إلا قريبًا جدًا، بعد أن سلبتني مبالغتهم الرضا لسنوات طويلة! شعرت بالحنق حين اكتشفت الخدعة، حين اكتشفت أنهم جعلوني في بحث دائم عن سراب غير موجود، أشعر دائمًا أنني لم أصل لذلك الذي يحكون عنه وأنه عليّ بذل المزيد من الجهد! أشعر أن تلك الفرحة داخلي لا تشبه تلك التي يبالغون في التظاهر بها! حياتي المليئة بالمشاكل لا تشبه تلك الوردية التي يخبرونني عنها، حتى مبالغتهم في الحديث عن لذة الطعام جعلتني أفقد الثقة في ذائقتي. لم أشعر أبدًا أنني كالمجذوبة حين أكتب، كما يحكون، إذًا لست كاتبة حقيقية. لم يسقط عليّ الإلهام من السماء، إذًا لست موهوبة، الموسيقى لا تصعد بي للسماء ولا أذوب في نغماتها إذًا أنا سطحية. لم أشعر أن أحدهم وقف مبهوتًا أمام جمالي كما يدعين إذًا لست جميلة! لا شيء في حياتي يشبه ما يحكون عنه إذًا هناك خطأ ما!
حين اكتشفت الخدعة يا رفعت شعرت بمزيج من الحنق والشفقة يشبه الذي شعرت به قديمًا، مع تلك الصديقة القديمة في المدرسة التي كانت تحكي لي طيلة شهور الدراسة عن أيام العطلة التي قضتها مع والدها وأسرتها خارج البلاد، تحكي لي بابتسامة واسعة وعيون لامعة عن الملاهي التي زارتها والأيام التي قضتها على الشاطئ ومزاحها مع والدها والحنان الذي يغدق عليها به. لم أحسدها لكنني كنت أشعر بالسخط على حياتي، كنت أقارن ما تحكيه بأيام عطلتي الطويلة المملة المتذبذبة بين اللحظات السعيدة والتعيسة وأتمنى لو كتب لي القدر قصة مختلفة، كقصتها مثلاً.
بعد عامين ونصف اكتشفت أن هذا لم يحدث أبدًا، أنها لم تر والدها لسنوات لأنه منفصل عن والدتها وأنها كانت تختلق كل ما تتمنى لو عاشته! كنا شريكتين في الأمنيات لكنها حين رسمت تلك الحياة التي تحلم بها وحكت عنها وكأنها واقع لم تعرف أنها تطلي صورة حياتي بالأسود! تلك الحياة الحقيقة جدًا، غير المبهرة أبدًا.
يحكون عن مشاعرهم فتتطاير الفراشات وتتساقط النجوم ويرون وجه الحبيب في القمر، وأنا أحدق به أراه جميلاً لكنني لا أحتاج لرؤية وجه حبيبي فيه وأشعر بالابتذال إن حاولت ذلك! أشعر أن هذا الذي أكتبه عن مشاعري جافًا وعاديًا وغير مبهر، لكنه حرفيًا ما أشعر به!
أشعر بالغيظ يا رفعت حين أجد أنه ليس بإمكاني تصديق كلامهم ببساطة دون أن أمرره على "فلاتر" وأجري حسابات معقدة، أقلص من حجمه لأنني أعرف أن فلان يعشق تضخيم الأمور، وأعكسه تمامًا لأن الآخر لا يحكي ما حدث وإنما ما تمنى لو يحدث. كل هذه التعقيدات تزعجني وترهقني يا رفعت ولا أعرف أين المعضلة في أن نقول ما نعنيه فعلاً؟
0 تعليقات