حكت لي أمي يا رفعت أنه حين غاب الخال أحمد على الجبهة واندلعت الحرب، كان التلفزيون يحاول مواكبة الحدث، لكنه لم يبال بالقلوب الملتاعة، عرض أفلامًا قاسية مليئة بالأشلاء والدماء تحكي عن الاستنزاف والنكسة. وكانت الجدة عزيزة كلما اخترقت رصاصة زائفة قلب بطلٍ في الفيلم تبكي وتصرخ "مستحيل أحمد يكون عايش وسط كل دا". لم يخبرهم أحد بما حدث وإنما عرف قلبها كل شيء. بكت كثيرًا بينما الآخرون كانوا يحاولون التعلق بالأمل "ما تقوليش كده يمكن عايش! إن شاء الله هيرجع".
حكت لي أمي بدهشة أن الضباط حين طرقوا بابهم بعد عشرات الأيام حاملين نعشًا خاليًا، وقدموا لهم ما تبقى من رائحة الخال الغائب صمتت جدتي ولم تنبس شفتاها بصرخة واحدة. كانت أمي مندهشة أمام صلابة الجدة، أمام ابتلاعها الصدمة التي أصابت جسدها بالمرض فيما بعد، كما تقول، ولكنني فهمت أنها أفرغت حزنها عليه كاملاً مسبقًا، ولما حانت لحظة الوجع الحق كان قلبها فارغًا.
ربما ورثت هذه اللعنة من جدتي؟ في ليالٍ كثيرة يا رفعت أعيش أصنافًا مختلفة من الحزن مسبقًا. أبكي وأنا نائمة، أستيقظ مفزوعة، أشكر الله أنه مجرد حلم ثم أفكر: وماذا أفعل حين أستيقظ وأجده حقيقة؟ رأسي لا تجيد إلا لعبة الاحتمالات والخوف، أفكر في عشرات المواقف واللحظات المؤلمة المخيفة التي يمر بها الكثيرون وهناك احتمالات كبيرة أن أواجهها يومًا، وحين أواجه الخوف / الألم الحقيقي أجده أهون كثيرًا من ذلك الذي عشت تحت تهديده، حتى أن ابتسامة حمقاء تفرض نفسها على وجهي في الوقت غير المناسب أبدًا "دا طلع زي شكة الدبوس!".
0 تعليقات