"أنت مصيبتي منذ أعوام" عبارة مفجعة دونتها "مي زيادة" على صورة "جبران خليل جبران" بعد رحيله، وبعد أن أصابها غيابه هذا بصدمة عصبية كبيرة تدهورت على إثرها حالتها النفسية، وظلت على هذه الحال حتى لحقت به في 17 أكتوبر 1941.
هذا الحب الكبير الذي عاش قرابة 20 عامًا دون لقاء واحد يشبع ظمأ العاشقين للحب، تبقت آثاره واضحة في رسائل "جبران" إلى "مي" فحسدتها عليه الكثيرات، ولكنه في الحقيقة كان محملاً بالوجع كأى علاقة حب عن بعد خاصة بالنسبة لـ"مي"، التي لا ترضى من الحب بالقليل. هذه القصة الأسطورية للحب المتواصل لسنوات طويلة يتحدث عنها الجميع بإعجاب ولكن لا أحد يفكر أبدًا فيما افتقدته "مي" في هذه العلاقة، ولكن رسائلها إلى جبران، وردود "جبران" عليها وكتابات كلاهما عن الحب باحت بما افتقدته "مي" في "الحب عن بُعد".
"الاحتماء به.. بالجسد ليس بالروح فقط"
فى خطاب صريح متفجر بالمشاعر الحقيقية والجريئة كتبت "مي" لجبران "أريد أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى، ليس بالروح فقط، بل بالجسد أيضاً، أنت الغريب الذي كنت لي - بداهة وعلى الرغم منك - أباً وأخاً ورفيقاً، وكنت لك أنا الغربية - بداهة وعلى الرغم مني - أماً وأختاً".
لا نعرف هل باحت "مي" باحتياجها هذا بعفوية وبساطة، أم مزقت الورقة مرات عديدة نازعها فيها كبرياؤها قبل أن تقرر أن تكتب هذه السطور وتعبر بوضوح عما ينقصها في البعد.
"تفاصيله.. عدد دقات قلبه وكيف يمضي نهاره"
في عصرٍ شحيح بوسائل تواصله كادت "مي" أن تجن في محاولة تتبع تفاصيل "جبران" التي لا تشبع خطاباته جوعها إليها، تلك الخطابات المليئة بسطور الغرام والحب والفلسفة والآراء الأدبية المتبادلة لم تكن تكفيها، كانت تلتهمها بحثًا عن أخباره "هو" وتفاصيله ولا تجدها، فكتبت إليه "حدثني عنك وعن صحتك، واذكر عدد ضربات قلبك، وقل لي رأي الطبيب، افعل هذا، ودعني أقف على جميع التفاصيل كأني قريبة منك، أخبرني كيف تصرف نهارك، أتوسل إليك أن تتناول الأدوية المقوية مهما كان طعمها ورائحتها، فمن هذه المقويات ما هو ضروري كل الضرورة، مفيد كل الإفادة، وكل ما تفعله لوقاية نفسك أحسبه أنا لك، يداً علي، وأشكرك لأجله لكل ما في قلبي من صداقة ومودة. أرسل لي سطراً أو سطرين من أخبارك بلا اجتهاد".
"رؤية الفتى الذي تحب"
طوال أعوام طويلة كانت هي فيها داخل مصر وهو في "نيويورك"، وبعد مواعيد ووعود كثيرة بزيارتها في القاهرة، أو زيارته في "نيويورك" لم يكتب القدر للحبيبين اللقاء، وظل ذلك الحلم والألم يعذب "مي" التي كانت تشعر بالوحشة والحزن والشوق وتحلم فقط بأن ترى يومًا وجه حبيبها.
وكعادتها حكت "مي" في خطابها عن ذلك وكتبت له "غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقى بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران".
"الأمان..."
كانت "مي" رغم بلوغها الثلاثين فتاة حساسة تمزقها الحيرة والخوف وانعدام الأمان، كانت تشعر بالكثير من الخوف إزاء الحب والقلق والحيرة تجاه طبيعة العلاقة التي تربطها بـ"جبران" وتسميها على استحياء "حبًا"، كتبت له في خطاب مليء بالاعترافات "ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به ! ولكني أعرف أنك "محبوبي"، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير.. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرّط فيه ؟ لا أدري".
هذا الخوف لمسه جبران وحاول طمأنته في إحدى رسائله "لا تخافي الحب يا مارى، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة"، لكنه أبدًا لم يغير شيئًا بشأن ما افتقدته في ذلك الحب المنقوص عن بعد.
نشر للمرة الأولى بموقع جريدة "اليوم السابع" ــ أكتوبر 2015
0 تعليقات