في طابور الاستقبال الطويل، كنت أشعر بالتوتر من جو المشافى المقبض، ورائحة المطهرات الخانقة، والقلق الذي لا يرحم. بين الوجوه المتعبة المرتبكة رأيتهما، عجوز سبعيني أو ستيني ربما، ترك زوجته تستريح على المقعد حتى يحجز لها موعدًا. هو يعرف عنها كل شيء، فكان ملء الاستمارة الروتينية بالنسبة له سهلاً، يحفظ كل تفاصيلها عن ظهر قلب وربما يمكنه أن يدخل للطبيب بدلاً منها ليخبره عن ألمها. أجاب كل أسئلة موظفة الاستقبال وعاد إلى الكرسي جوارها،عاتبته مازحة، لتخفف توتره "ما يصحش كده إزاي تقول سني قدام الناس مش دا سر بيننا؟" كان يحاول إخفاء توتره عنها بنظرة مشجعة ظهرت واضحة من خلف نظارته. ضحك لها خجلاً وسرقت أنا الجزء الأخير من ابتسامته. بادلتهما الابتسامة وأنا أتمنى ألا يغادرا المشفى محملين لا بالخوف ولا الألم.
غرقت في أفكاري ولا أعرف متى غابا عن عيني ليحل مكانهما ثنائي جديد. الشبه بينهما كان واضحًا، كانا شقيقان أحدهما خمسيني والثاني على مشارف الأربعينيات، لو أن تقديري للعمر صائبًا. كان الأخير يتحدث بحدة قبل قليل لموظفة الاستقبال التي تصر على تحويلهما لطبيب لن يأتِ قبل ساعات، أصرّ بدوره أن يدخل للطبيب المتاح الآن حتى لو لم يكن التخصص دقيقًا.
تعاطفت مع الموظفة وشعرت أنهما متعنتان حادا الطباع لكن بعد قليل جلسا على الكرسيين المجاورين ورأيت صورة أخرى عن قرب. كان الأكبر يتألم، والأصغر مرتبكًا يشعر بالخوف. ورغم ذلك فإن شعورهما بالخوف من الألم المفاجئ الغامض لم يمنعهما من الاهتمام بشؤون ابنة اختهما الشابة التي تعمل بالمستشفى ذاته وقابلانها صدفة. راقبت المشهد وهما يسألانها بحنان كيف تدبر شؤونها كيف تأكل وهل تحتاج شيئًا؟ هل تشعر بالراحة في المكان؟ وإلا فهما جاهزان لتوفير عمل بديل لها.
كانت الفتاة صغيرة، ربما لم تبلغ العشرين بعد، تبدو جديدة بالمكان ولم تتأقلم كفاية، ظهرت على ملامحها الراحة وهي تراهما أمامها، كطفل يزوره أبواه في المدرسة الجديدة.
كان الخال الأكبر، المريض، حنونًا كريمًا وشهمًا، وكان الأصغر مرتبكًا وهو يرى سنده بحاجة لسند. يشعر الأكبر بالخجل لأنه عطله طويلاً في انتظار المزيد من الفحوصات، فيطمئنه "خد وقتك.. ماعنديش مشكلة في الوقت خالص".
جعلتني عبارته الاحظ أن كل الكلمات العادية البسيطة تكون ألطف في ردهة الاستقبال، حتى الدعابات السخيفة والعبارات الروتينية والتي ربما لا يعنيها أصحابها حقًا تكون أجمل هناك: "أنا معاك" "ما تقلقش" "اسند عليا" "مش همشي قبل ما اتطمن عليك" "انت زي الحصان".
0 تعليقات