"أما حتة تغفيلة"!

عادة يتطلب الأمر قطع نحو ربع المسافة ليمتزج راكبو "الميكروباص" معًا ويشعرون أنهم والسائق كيان واحد. أظنها تحدث حين يتممون على الأجرة، وتستقر نقود كل منا في جيبه وتمر الحسابات المعقدة بسلام دون أن يضطر السائق لتخوين أحد، ودون أن ينفعل أحد الركاب على الآخر. بعدها يصبح السائق جزءا من كل منا؛ نغضب لأجله، نستنكر أخطاء سائق الملاكي الذي "كسر" عليه، ونرى كل سائق غيره هو المخطئ بلا شك، ونكون مستعدين لإخراج رأسنا من الشباك لدعمه وسب خصمه؛ لكننا هذه المرة لم نتوحد مع السائق بعد ربع المسافة، لقد تورطنا معه في مؤامرة صغيرة من اللحظة الأولى.

كان ينتقينا بعناية، يستعين بفراسته وخبرته الطويلة في فرز الزبائن. لمح حقيبة الظهر مع أخرى في اليد فأدرك أنني على سفر. مال وقال "عبود يا أبلة !" لم يكن يسأل، كان متأكدًا. لمعت عيني، فقد أنقذني من صعود ثم نزول السلم الطويل المرهق، وانتظار ميكروباص في موقف مشمس كريه الرائحة. أومأت إيجابًا فعرض عليّ فورا المؤامرة: "اركبي العربية دي بس لو حد سألك قولي إحنا رايحين التحرير" موافقة بالطبع! ليس فقط لأنه يسهل علي طريقي، وإنما لأن الكذبة الصغيرة راقت لي، وهذا التشويق أعجبني.


أتم اختيار الركاب بعد أن أشركنا جميعا في المؤامرة. ابتسامة تحركت داخلي رغما عني حين كان يضع الحبكة الأخيرة وينادي "إسعاف تحرير تحرير تحرير" وهو يمر بمحاذاة السائقين الآخرين ليخفي عن السامعين وجهته الحقيقية. لا أعرف هل كان يخدع زملاءه أم يخدع المشرف على الموقف. كنا جميعًا راضين سعداء بهذه الخدعة الصغيرة، رغم أننا لا نعرف مغزاها ولا أبعادها.


خفقت قلوبنا حين علا صوت سائق آخر يقول بصوت عال وهو يشير بإصبعه نحونا: "دا كداب دا رايح عبود". كان إصبعه يتهمنا جميعًا رغم أنه يقصد السائق وحده. وفي الداخل، قال سائقنا لصديق له في السيارة إنه يحتاج فقط لعبور الكوبري، وبعد تخطي هذه النقطة الحرجة "أعلى ما في خيلهم يركبوه ". 


"حسنا! هيا يا رجل  اعبر الكوبري سريعا! لا تسمح لهم أن ينتصروا علينا" همست لنفسي بحماس، وأكاد أجزم أنني سمعت تنهيدة ارتياح بين الركاب بعد أن اجتزنا الكوبري، أما هو فقال بلهجته الجنوبية المحببة في فرحة طفولية وهو يصفق على عجلة القيادة بكفيه "أما حتة تغفيلة ... إحنا عدينا".


طيلة نصف ساعة هي مدة الرحلة كان يبتسم من وقت لآخر وهو يتذكر تفاصيل انتصاره الصغير ويسترجعه مع صاحبه " الواد عصام هيتجنن" "دلوقتي نقابل محمد ويستغرب إحنا رحنا عبود ازاي ... أما حتة تغفيلة ".

إرسال تعليق

0 تعليقات