"يا آنسة ممكن تليفونك أعمل مكالمة". ها أنا ذا أتعرض أخيرًا لمحاولة السرقة التي حذروني منها كثيرًا! طبعًا لن أنخدع بهذه الحيلة القديمة التي أندهش أنهم لا يزالوا يمارسونها. دارت هذه الأفكار ببالي، بينما فوجئت بنفسي أقدم لها هاتفي باستسلام حذر.
كنا عبرنا للتو شارعًا واسعًا تعبره السيارات بسرعة مخيفة، كانت تسبقني بخطوة ثم التفتت إليّ وطلبت الهاتف فورًا دون الكثير من التفكير، دون حتى نظرة متفحصة تحاول أن تسبر بها أغواري وتقيم الشخص الذي تطلب منه هذا الطلب. خرجت الكلمات من فمها باندفاع بمجرد أن التقت عينانا وكأنها جاهدت نفسها طويلاً ثم قررت أن تطلبه من أول شخص تقع عيناها عليه، أيا كان.
لا أعرف هل سلمتها الهاتف لأن وجهها كان يائسًا جدًا، أو لأنني لم أكن معتادة أبدًا على رفض أي طلب، وربما فقط لأنني أبحث دائمًا عن بعض الإثارة في حياتي المملة.
التقطت الهاتف بلهفة مع ابتسامة امتنان قصيرة. ووقفنا في الممشى العريض بين الشارعين. حرصتْ أن تقف في جانب منزوِ، لا أعرف لطمأنتي إلى أنها لن تهرب أم لأنها تشعر أنها بحاجة للاختباء لثقل الموقف عليها.
طلبتْ الرقم الذي تحفظه عن ظهر قلبٍ وأنا أمامها، أقف متحفزة مستعدة لمحاولة اللحاق بها فور أن تقرر الجري لتهرب بهاتفي.
حسبتُ الخسائر سريعًا في ذهني: ماذا يحدث إذا لم ألحق بها؟ كان الهاتف قديمًا على أي حال وأفكر في تغييره. ثم إني قريبة من بيتي ويمكنني أن أحذف كل بياناته عن بعد. ليس عليه ما أخشى ضياعه لأنني اعتدت على سرقة هواتفي فأحتفظ دائمًا بنسخة احتياطية من كل شيء. حسنًا لن تكون كارثة كبيرة.
طلبتْ الرقم أكثر من مرة وانتظرت الرد طويلاً واللوعة تملأ عينيها، لكن الرد لم يأتِ أبدًا. بدأت أتملل في وقفتي في إشارة إلى رغبتي في الرحيل، فبدأ توترها يزداد وكادت الدموع تفطر من عينيها. سلمتني الهاتف وهي تجرب مرة أخيرة لكنه لم يرد. سألتها وأنا ألتقطه منها: "لو صاحب الرقم اتصل أقوله حاجة؟" لم أكن أقصد المضايقات أو أي شيء من هذا القبيل، إنما فقط تعاطفت معها وشعرت أن لديها رسالة ملحة تريد أن توصلها، لكنها ردت بأسى"هو أصلاً عمره ما هيتصل.. ما تخافيش".
سبقتني بخطوة مرة أخرى وهي تعبر الشارع بيأس شخصٍ ليس لديه ما يخشى فقدانه. قادنا القدر لركوب سيارة الأجرة ذاتها، فلمع في عينيها أمل جديد "ممكن تجربي تطلبي الرقم تاني؟"، قالتها باستجداء لم يمكنني مقاومته. لبيت طلبها مرة ثم أخرى، ثم انتبهت إلى أن الرقم مشغول بمكالمة أخرى.
لا أعرف لماذا تعاطفت معها. كنت في البداية أظنها تواجه موقفًا طارئًا وتريد أن تخبر شخصًا ما بمكانها بعد نفاد رصيدها، لكن مع الوقت فكرت أنها ربما عاشقة تطارد حبيبًا هاربًا أفقدها صوابها. انحزت لكرامتها لدرجة أنه حين اتصل الرقم مرة أخرى لم أخبره بشأنها، إنما ادعيت أنه رقم صيدلية وأن رجلاً عجوزًا متوعكًا هو من طلب هذا الرقم بإلحاح ليأتي ابنه ويصحبه.
0 تعليقات